He also seeks inspiration from the faces of people and warm family relationships, friends and songs and folklore, and, of course, the country’s green fields and mighty river, the Nile (from Yasser Sultan, March 2015)
El Mur was born in a village in the outskirts of Khartoum, Sudan's capital in 1966. His artistic talent was soon revealed at primary school but it was in Saudi Arabia where he began to receive praise from his teachers and classmates. Back to Sudan, he entered a Fine Arts Academy and graduated in Graphic Design in 1989. Since then, El Mur has held several solo and group exhibitions noth in Sudan, Egypt and abroad and has been working as an artist, illustrator, writer and filmmaker.
The exhibition will be hosted by Mashrabia Gallery and Gallery Misr.
The exhibition runs until November 19 at Mashrabia Gallery and until November 5 at Gallery Misr.
صلاح المر: آخر الطقوس المحلية
كانت كل الأشياء من حوله تحتفي بالحياة والطبيعة البكر, بينما ترتبط مهنة الأب كمهندس بالأقلام والأوراق, فعلى مساحة الرسم البيضاء تتشكل خطوطه لتصنع أشكالاً ذات قوام هندسي. هو ما يزال حتى اليوم يتذكر تلك الألوان والأشكال التي كانت تطرزها الأم على الأقمشة.. يتذكر وقع الألوان التي كانت ترتديها النساء على مخيلته.. يسترجع مشهد النهر والمساحات المزروعة, ملامح الناس, العادات, كل الأغنيات التي كان يسمعها وهو صغير. من يتأمل أعمال الفنان صلاح المر يمكنه أن يتعرف على كل هذه التأثيرات في أعماله, فالماء والزخارف, والنباتات, والوجوه السمراء والخطوط الهندسية, والحشرات والكائنات الصغيرة التي كان يراها في الحقول الممتدة حول النهر, كلها عناصر حاضرة بقوة فوق مساحة الرسم.
كان طفلاً في المدرسة الإبتدائية يشعر بالسعادة وهو يشكل بأنامله الصغيرة رسوماته الأولى ويتعرف شيئاً فشيئاً على تلك الموهبة رغم ضعف الإمكانيات المتاحة في المدارس الابتدائية في ذلك الوقت, وبدأ وعيه يتشكل وسط هذا الغنى البصري من حوله. وحين انتقل مع أسرته للإقامة في المملكه العربية السعودية حيث يعمل الوالد, كان قد أدرك أنه يمتلك شيئاً مميزاً, في تلك الفترة كان يزين برسومه الصحف الحائطية في المدرسة المتوسطة التي التحق بها هناك, وحين عاد إلى السودان ليلتحق بالمدرسة الثانوية كانت موهبته قد بدأت تتشكل وتتخذ مساراً جدياً,فكانت مدرسته الثانوية تتمتع بامكانيات كبيرة لقسم الفنون تكاد تقارب امكنيات كلية الفنون واستاذة فنون لهم شقف العطاء فاصبح عضوا في جمعية الفنون التي اخذت بجل بوقته ليعيش في المرسم الخاص بها برعاية استاذته كما راح يساعد في وضع الديكورات المسرحية التي كانت تنظمها المدرسة وبدا مميزاً بين أقرانه في حصص الرسم, وتولدت لديه حينها قناعة بأن عليه أن يستمر في هذا الطريق. في تلك المرحلة المبكرة أقام صلاح المر أول معارضه الخاصة في (إحدى صالات الخرطوم), وكان عليه أن يفكر جدياً في دراسة الفن, خاصة أنه لم يجد معارضه من والديه, الوحيد الذي كان معترضاً هو جده, فالفن من وجهة نظره ليس بمهنة يعتمد عليها.
بعد أن أنهى الدراسة الثانوية التحق صلاح المر بكلية الفنون الجميلة بالسودان, وفي عامه الثاني بالكلية كان عليه أن يختار بين عدد من التخصصات الفنية التي تشتمل عليها أقسام الكلية, ورغم أنه كان أميل إلى قسم التصوير إلا أنه اختار دراسة التصميم الجرافيكي أرضاءاً لأسرته, إذ يتيح له ذلك التخصص توظيف دراسته في شكل عملي كمصمم للكتب أو الأغلفة أو العمل في مجال الدعاية والإعلان, أو أي من هذه المهن التي تجد قبولاً لدى الناس, ورغم التحاقه بقسم التصميم الجرافيكي إلا أن نظام الدراسة في الكلية كان يتيح له الإطلاع على المجالات الفنية الأخرى من تصوير ورسم ونحت وغيرها.
تخرج صلاح المر في الفنون الجميلة والتطبيقية عام 1989 وعمل فور تخرجه في مجلة "السودان اليوم" وهي مجلة شهرية تصدر في السودان باللغة الإنجليزية, وكان يصدر عنها كذلك جريدة يومية تحت عنوان "نيو هوريزون" فكان يعمل كمصمم جرافيكي في المجلة ورسام كاريكاتير في الجريدة, وبسبب إحدى رسومه الكاريكاتورية تلك تم فصله من العمل في الجريدة مع أربعة من زملائه. لقد أحزنه حينها هذا التعسف الذي بدا له بلا مبرر, غير أن ابتعاده عن العمل الروتيني قد أتاح له الفرصة من أجل التفرغ لفنه, كما أتاح له مجالاً للحركة وخوض تجارب جديدة.
عشق السفر
في طفولته كان يراوده ذلك الحلم, كان يحلم بالسفر من مكان لآخر وأن يخوض تجارب جديدة في بلاد بعيدة, فتحقق له ما أراد. بعد تركه للعمل في الجريدة شارك الفنان صلاح المر في عدد من المعارض الفنية في السودان,وخارج السودان ، سافر صلاح المر لعرض أعماله في بينالي الشارقة للفنون, ومن الشارقة قرر صلاح المر أن يسافر إلى كينيا, ومنذ ذلك الحين لم يستقر الفنان في بلد واحد وظل ينتقل من مكان لآخر, لكنه في كل مرة كان عليه أن يعود إلى موطن أحلامه وصباه البكر ليتزود مرة أخرى من تلك الزخيرة التي شكلت وعيه وخياله.
اختار صلاح المر السفر إلى كينيا لعلمه أن بها سوقاً مزدهراً للفن, وعملاً بنصيحة ذلك الرجل الكندي الذي كان يزوره بين الحين والآخر من أجل اقتناء أعماله. كان الرجل يعمل في إحدى المنظمات المهتمة بالحفاظ على الحرف اليدوية والتراثية وينتقل باستمرار بين السودان وكينيا, وحين اقتربت فترة عمله في أفريقيا على الانتهاء نصحه قبل أن يودعه بالسفر إلى أديس أبابا, فهناك يستطيع أن يحقق جزءاً من أحلامه. كانت الرحلة إلى كينيا من مدينة الشارقة محفوفة بالمخاطر, فالأموال التي كانت بحوزته حينها لم تكن كافية لتغطية الرحلة, لذا أضطر للبحث عن شركة طيران رخيصة لتنقله إلى هناك. وبالفعل عثر على إحدى شركات الطيران التي تنقل الناس والبضائع إلى كينيا مروراً بالصومال. لم يفكر صلاح المر كثيراً, كان يعرف قدر المخاطرة التي هو مقدم عليها, فالأوضاع في الصومال وقتها كانت قد تدهورت إلى حد كبير, واتسعت رقعة الحرب الأهلية هناك, ورغم هذا لم يتراجع صلاح المر عن قراره, كان عليه أن يحقق رغبته وحلمه القديم بالسفر. وحين حطت الطائرة في مطار مقديشيو كان عليه الإنتظار ليوم كامل حتى تتمكن الطائرة مرة أخرى من الإقلاع إلى كينيا, ليقضي هناك يوم بين أصوات القنابل والرصاص التي كانت تتناهي إلى مسامعه.
وفي كينيا اكتشف صلاح المر أن الفن يمكن أن يكون مصدراً للعيش, فمن هناك أتيحت له فرصة المشاركة في معارض عدة حول العالم, واستطاع التفرغ بالفعل لممارسه الفن. أقام صلاح المر في كينيا ما يزيد على الأربع سنوات, وخلال هذه السنوات تكشفت معالم تجربته الفنية, واتضحت ملامحها الرئيسية. ارتبط الفنان بالمجتمع الثقافي في كينيا ارتباطاً وثيقاً, وصار اسمه معروفاً في الأوساط الفنية هناك. ولكن على الرغم ومن توطد علاقته بالمجتمع الثقافي في كينيا, وارتباطه بذلك البلد ارتباطاً عاطفياً إلا أن ابتعاده عن السودان كان يشعره بالإغتراب دائماً على الرغم من زياراته للخرطوم التي لم تنقطع خلال فترة إقامته في كينيا. لقد سيطر عليه حينها إحساس العابر, ربما لهذا السبب كانت معظم أعماله التي أنجزها في كينيا مرسومة على الورق, فمنذ الأيام الأولى التي وطئت قدماه مدينة نيروبي وهو يستعد للرحيل في أية لحظة, ولم يكن يدور في خلده أن إقامته سوف تمتد به لسنوات. ولكن كان عليه العودة أخيراً إلى الوطن, فهو موطن خيالاته ومستودع أفكاره, هو الشعلة المتقدة التي تسكن قلبه وعقله وتشكل الإطار العام لأعماله. كان عليه أن يعود للسودان كي لا ينقطع حبل التواصل الذي يربطه بهذا العالم الغني والمدهش.
كانت القاهرة هي المحطة الثالثة التي حط فيها الفنان صلاح المر رحاله. وكان أول لقاء له بها في بداية التسعينات من القرن الماضي, كان قادماً حينها من سوريا بعد انتهاء معرضه هناك في قاعة "عشتار". وفي سوريا تعرف صلاح المر على واحد من أبرز الفنانين السوريين وهو الفنان نذير نبعة الذي أوصاه حين علم بمروره على القاهرة بالتواصل مع اثنين من الفنانين المصريين وهما الفنان المصري الراحل محي الدين اللباد والفنان محمد حجي. وحين حضر صلاح المر إلى القاهرة تواصل بالفعل مع هذين الفنانين, وارتبط بهما, وكانت هذه العلاقة هي سبب بقائه في القاهرة لعدة أشهر عمل خلالها في ورشة محي الدين اللباد كمساعد له, كما تعاون كذلك مع الفنان محمد حجي. قضى صلاح المر في زيارته للقاهرة حوالي ثمانية أشهر تعرف خلالها على المجتمع الثقافي في مصر, ومنذ ذلك الوقت تعود على زيارة القاهرة بين الحين والآخر إلى أن كثف إقامته ابتداءاً من عام ( 2005 ) وأقام عدداً من المعارض الهامة لأعماله بها حتى صار جزءاً من هذا النسيج الفني لتلك المدينة. وما زاد شعوره بالاسقرار أنه تزوج في القاهرة من الفنانة المصرية سعاد عبد الرسول. في القاهرة أنتج صلاح المر أعمالاً ذات أحجام كبيرة, فبالإضافة إلى أعماله المرسومة على الورق يفضل صلاح المر التعامل مع المساحات الكبيرة, فهي أكثر سهولة من الرسم على المساحات الصغيرة- كما يقول, ففي الأحجام الصغيرة هو يختصر الفكرة ويختزلها, أما المساحات الكبيرة فتعطيه مجالاً أرحب في التعامل مع السطح, وربما لهذا الأمر أيضاً يفضل استخدام خامة الأكريلك فهي الأنسب لملاحقة أفكارة المتدفقة, فالفكرة تنضج وتتضح معالمها في ذهنه قبل أن تنتهي على مساحة الرسم.
وعلى الرغم من ذلك الترحال المستمر والإنتقال بين أكثر من عاصمة إلا أن السودان تظل دائماً هي المحطة الرئيسية في تجربة الفنان صلاح المر, فهو يبتعد عنها ليعود إليها من جديد. كما يمكننا أن نتعرف على أثر ذلك الارتباط بالوطن في أعماله على نحو ملفت, فالمتأمل في أعمال صلاح المر سوف يلمح أثر ذلك الإغتراب على أعماله, إذ يحيطها بغلالة رقيقة من الألفة الحنين.
ينتقل الفنان صلاح المر بين مدن ثلاث ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً, هي الخرطوم, ونيروبي, والقاهرة. ومن خلال هذه المدن الثلاث انطلق صلاح المر نحو أرجاء العالم المختلفة, فقد عرضت أعماله في عواصم عدة حول العالم, من كوريا شرقاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية غرباً, مروراً بعواصم أوروبية وعربية مختلفة. ومن أهم المشاركات التي تركت أثراً في نفسه على سبيل المثال مشاركته ضمن مجموعة من الفنانين في إقامة معرض بالمتحف القومي البريطاني في تسعينيات القرن الماضي, وكان المعرض مخصصاً للثقافة السودانية وحمل عنوان "السودان بين الماضي والمستقبل" حمل هذا المعرض إشارة مهمة لصلاح المر, وكان دافعاً له من أجل مواصلة هذا الطريق الذي بدأه, فقد شعر بأهمية ما يفعله, كما شعر بالفخر كونه يعرض أعماله داخل المتحف القومي البريطاني ضمن مجموعة مختارة من أهم فناني السودان, لذا هو يعد هذا المعرض أحد المحطات الهامة في حياته وتجربته في شكل عام, كما أقام الفنان كذلك معرضاً فردياً لأعماله في المركز الثقافي الأفريقي بالولايات المتحدة الأمريكية. أقيم المعرض في بداية الألفية, وضم أكثر من 25 لوحة من أعماله هناك.
طقوس وعلامات
في أعمال الفنان صلاح المر تتشكل معالم اللوحة قبل أن تتحقق عملياً على مساحة الرسم. قد لا يقوم في أحيان كثيرة بعمل تصور لها على الورق, غير أن هذا التصور عادة ما يكون واضحاً في ذهنه قبل البدء في تنفيذ اللوحة. وهو في سبيل ذلك يتبع أسلوباً خاصاً في شحذ أفكاره عبر طقوس لا يتوقف عن ممارستها, ومن ضمن هذه الطقوس التي يمارسها على سبيل المثال أنه لا يتوقف عن الرسم, يشكل بالأقلام على مساحات صغيرة من الورق ما يعن له من أفكار قد ترد على ذهنه, يصوغ عناصره ومفرداته الكثيرة في رسومات سريعة كي لا يترك المجال لتلك الخيالات التي تملأ رأسه للهرب أو التسلل من مخيلته, وله في ذلك تجربة شيقة في الرسم على أوراق الكتب, إذ يمتلك صلاح المر العشرات من الكتب المليئة بالرسوم التي وضعها من وحي خياله, هو يرسم من وحي الخطوط ونسق الأحرف المكتوبة, يتتبع ذلك النسق الحروفي بين الأوراق, ويوظف الأشكال والخطوط المصاحبة كما يعن له. هو لا يضع هذه الرسوم السريعة كي يقوم بتنفيذها, هو يقتنص الفكرة قبل أن تبهت ملامحها في الذاكرة. أمر آخر يقوم به صلاح المر يساهم أيضاً في إزكاء خياله ورؤيته البصرية, فهو مغرم بتتبع كل ما هو قديم, وتلفت إنتباهه الأشياء ذات المسحة العتيقة, وهو يقتني مجموعة من العلب المعدنية القديمة والفارغة, كما أنه يعشق هيئة اللافتات القديمة, هذه اللافتات المعدنية التي تحوي أسماء الشوارع والأزقة ولديه العديد من الصور الفوتوغرافية التي قام بالتقاطها لتلك اللافتات من أنحاء عدة في السودان ومصر وكينيا وبلدان أخرى. هو يصور ويتأمل وينقش في الذاكرة كل هذه الأشكال والعناصر ليترجمها وعيه البصري بعد ذلك على أسطح اللوحات. وتمثل هذه الزخيرة من الرسوم السريعة على الأوراق وعلى صفحات الكتب الداخلية مع صور اللافتات المعدنية والأشياء العتيقة وقوداً لا ينضب لأفكاره وعناصره ومفرداته التي يوظفها على سطح اللوحات. قد لا تكون الترجمة البصرية غير مباشرة, إذ لا تلمح هذه العلاقة بين تلك الأشكال والمؤثرات البصرية اللافتة في أعمال صلاح المر, لكنه يدهشك حين يشير أو يلفت انتباهك إليها. قد تعثر على هذا الرابط في طريقة رسمه للوجوه, قد يفاجئك بتوظيفه في تفاصيل الملابس أو الخلفية أو أياً من مكونات المفردات المشكلة للعمل.
التيمة
طريقة أخرى يتبعها الفنان صلاح المر في شحذ خياله, فهو يعتمد في أعماله عادة على تيمة ما أو فكرة مسيطرة في تناوله لهذه الأعمال. هذه التيمة أو الفكرة العامة يجب أن تكون حاضرة قبل البدء في تنفيذ العمل. هو يتخذها تكئة يستند إليها في صياغته للعمل, لذا نرى لكل لوحة من لوحاته اسماً ما يعبر عن مضمون العلاقات التي تربط بين العناصر بعضها البعض. أسماء اللوحات هنا ذات وقع آسر, يحمل معظمها حساً شعرياً وعاطفياً مرتبطاً في الغالب بذكريات الطفولة. هو يضع إشارة ذات دلالة على مشهد أو موقف حدث له أو انطباع ما علق بذهنه ذات يوم ويعود في أغلب الأحيان إلى فترة طفولته وصباه البكر, تبدو أسماء اللوحات أشبه بإشارات أو علامات مضيئة فنجد على سبيل المثال أسماء لوحات مثل: امرأة عارية على شاطىء النيل الأزرق, المحب, أنثى الرمان, أو فتى الجوافة, العملين الأخيرين هما ضمن مجموعة من الأعمال التي يقارب فيها الفنان بين أشخاص يعرفهم وثمار الفاكهة بألوانها ومذاقاتها المتعددة والمتباينة, فالكائنات والموجودات الأخرى لا تختلف كثيراً عن البشر, كما تحمل الأماكن والجمادات أيضاً سمتها الخاص وروحها القريبة من عالم البشر. هذه الأسماء الدالة قد تشير إلى لوحة مفردة, وقد تكون عنواناً لمجموعة من الأعمال معاً, كمجموعة "ذكريات" وهي تشمل شريحة واسعة من الأعمال التي رسمها من وحي ذكرياته عن القرية التي نشأ فيها أو الأشخاص الذين عرفهم في حياته, فهو يرى أن كل لحظة تمر تتحول بطبيعة الأمر إلى ذكرى, وهو يحاول استلهام هذه الذكريات أو تسجيل انطباعها قبل أن تفلت من ذاكرته. ومن بين مجموعاته كذلك مجموعة "العائلة", "والأجنة". وثمة مجموعة أخرى تحت عنوان "الأستوديو" وهي من وحي الصورة الفوتوغرافية, وليس لهذه المجموعة أي علاقة عضوية بالفوتوغرافيا سوى الأوضاع التصويرية التي يتخذها الأشخاص المتواجدين في المشهد. هذه نماذج لنوعية التيمات أو الأفكار التي يضعها الفنان صلاح المر كإطار عام لأعماله التصويرية, ومن النادر أن يتخلى عن طريقته تلك, فهي تعطيه مجالاً أوسع للرؤية وتدفع الأفكار والصور دفعاً إلى سطح الذاكرة البصرية لديه.
يرسم الفنان صلاح المر أعماله كما قلنا في مجموعات تحمل نفس الفكرة ونفس التيمة, ونادراً ما يرسم لوحة مفردة, فهو يحكم عليها حينئذ باليتم كما يقول. ربما يرجع ذلك الأمر إلى قوة الفكرة وطغيانها البصري على قريحته, الأمر الذي يتعذر معه حصرها داخل إطار أو تصور وحيد. يمتلك الفنان صلاح المر ذاكرة متدفقة بالأفكار والدلالات والعلامات الموحية, وهو يقتنص هذه الأفكار عند جلوسه أمام مساحة الرسم البيضاء الخالية, فيعالجها عادة بخطوط سريعة يحدد عن طريقها الإطار العام للبناء عن طريق الأحبار أو الأقلام السوداء أو بالفرشاة, أو أي آداة متاحة لديه, ثم يبدأ بعدها في أضافة اللون شيئاً فشيئاً حتى تتشكل الألوان من الأخف إلى الأثقل فالأثقل, وتتأكد مساحة اللون النهائية, وأثناء ذلك يقوم بالحذف والإضافة والمراوحة بين درجات اللون الفاتحة والقاتمة حتى تكتمل اللوحة محققة تلك الصورة التي تخيلها في ذهنه. وما أن تكتمل اللوحة في صورتها النهائية حتى يدخل الفنان في مرحلة جديدة من الصياغة من إضفاء للرتوش أو التأكيد على بعض التفاصيل الصغيرة أو ما يسميها هو بمرحلة الـ "تطريب"
أزهار الطلح الاحمر( اكاسيا سيال) واشجار الحراز
تختلف أشجار الحراز عن بقية الأشجار الأخرى, فهي لا تزهر في موسم المطر, وهي واحدة من أهم أنواع الأشجار في القارة الأفريقية. تنتشر أشجار الحراز فوق مساحة واسعة من القارة الأفريقية, من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق, ومن أقصى الجنوب حتى السودان وتخوم الصحراء الكبرى شمالاً, وهي شجرة تتميز بضخامتها وارتفاعها. يستظل بظلها العابرون ويبحث عنها الرعاة بين المراعي وتظهر اغصانها في رسومات صلاح المر وبالاخص في الرسومات التطخطيطية (لاسكتشات).
اما ازهار شجرة الطلح الاحم الصفراء المستديرة الزغبية الهينة الملمس فزهورها طعام سائغ للماشية. تحتل أزهار تلك الشجرة مكانها بقوة في أعمال صلاح المر, يرسمها كباقات في أيدي الناس وكتميمة على صدور الأطفال, وهي تتكرر في لوحات عدة على هيئة سيقان صغيرة متشعبة ذات أزهار صغيرة ومستديرة وهشة. أزهار الطلح الاحمر في أعمال صلاح المر ذات وقع رمزي, فهي إشارة للخير والنماء والزهو بالوطن, كما أن لها بلا شك علاقة بذكرياته وطفولته وانتمائه. في لوحة "المفتش الزراعي" (أكريلك على قماش – 2014 ) ثمة شخصين واقفين في صدارة المشهد, هيئة الرجلين تبدو مميزة, هما ينتظران رداً أو جواباً من أحدهم, يقفان كأنما يحدقان في المشاهد.. إنها صورة أخرى من الماضي تطل علينا من خلال اللوحة. ففي طفولته كان الفنان دائماً ما يشاهد المفتش الزراعي قادماً من الجهة الخلفية من البيت كي يقوم برش النباتات من أجل تطهيرها من الحشرات, لقد تأثر الفنان بتلك الهيئة التي يبدو عليه الرجلان, كما تأثر كذلك بتلك الزيارات المتكررة. رسم صلاح المر كل ما علق بذهنه من تلك الصور, وماذا علق منها غير هيئة الرجل ومساعده على الأرجح, ولأن وجود الرجل قد ارتبط في ذهنه دائماً بحشرات الحقل لم يغفل الفنان التأكيد على تلك العلاقة والارتباط البصري, فرسم حشرة كبيرة في الجزء العلوي من اللوحة, يبدو حجم الحشرة كبيراً بالقدر الذي تشغله في الذاكرة مع هيئة الرجل ذو القبعة. في هذه اللوحة تحتل أزهار الطلح الاحمر والمعروفة في السودان باسم ( البرم ) مكانها على صدر الرجل إلى اليسار, يقبض عليها بيده كأنها تميمته الخاصة, تبدو الزهرة بسيقانها الرمادية ورءوسها المستديرة الهشة كباقة أزهار على وشك أن يقدمها الرجل إلى حبيبته, أو كأنما يحتفظ بها كتذكار منها.. ولكن الحبيبة في أعمال صلاح المر ليست سوى الأرض, والبيت, والذكريات, وساعات السمر الليلي, الحبيبة هنا هي الوطن, وما تلك الزهرة سوى تذكار منها, تذكار يفرض نفسه ويقفذ بين الحين والآخر من المخيلة.
أستوديو كمال للتصوير الفوتوغرافي.
كان "كمال المر" والد الفنان صلاح المر يمتلك استوديو صغير للتصوير الفوتوغرافي, وقد أغلق هذا الاستوديو قبل أن يتشكل وعي صلاح المر, فهو لا يتذكر ذلك الاستوديو, لكنه يتذكر كل هذه الصور الفوتوغرافية التي كان يحتفظ بها الوالد في البيت. أرشيف كامل من الصور الفوتوغرافية و سلبيات الصور (النجتيف ) كانت بين يدي الفنان يقلب فيه كيفما يشاء, يتطلع إلى الوجوه ويتخيل شكل العلاقات التي كانت قائمة بين أصحاب الصور, العيون في الصور محدقة, والإبتسامة تتسلل عبر الملامح المتجمدة لتحتل مكانها على الوجه, بينما تحيط بالمكان أجواء مسرحية تهىء الأشخاص داخل الصورة لتلك اللحظة. كبر الفنان ليجد المئات من الصور الفوتوغرافية من أرشيف هذا الاستوديو وقد صارت متاحة امامه: صور شخصية وعائلية, وصور عامة كان يلتقطها الأب بكاميرته خارج الاستوديو. من بين هذه الصور إنتقت الأم مجموعات كبيرة من الصور العائلية التي تخص الأقارب والأصدقاء واحتفظت بها جميعاً داخل علب معدنية صغيرة مزينة برسوم ونقوش ملونة. كان صلاح المر طفلاً يتسلى بالفرجة على هذه الصور الفوتوغرافية, علقت في ذهنه الوجوه والنظرات المترقبة وسَمْتُ الأشخاص. هو مايزال إلى اليوم محتفظاً بالعديد من هذه الصور داخل نفس العلب المعدنية الملونة التي كانت تحتفظ بها الأم, ومازال يتذكر الصور الأخرى التي كان يتطلع إليها وهو صغير. ارتبطت الصور الفوتوغرافية في ذهنه بهذه العلب المعدنية الصغيرة, وهو إلى اليوم يبحث عن هذه العلب وشبيهاتها, تلفت انتباهه على الفور حين يراها, يجمع منها ما استطاع, فلطالما أشعرته مثل تلك الأشياء القديمة بالحنين الجارف إلى طفولته.
هذه الصور الفوتوغرافية تتدفق اليوم عبر الذاكرة لتصنع لنفسها نسقاً بصرياً يشتبك مع طريقة معالجته لأعماله الفنية. تأمل هؤلاء الناس داخل المساحات المرسومة, هم أيضاً بانتظار تلك اللحظة, هذه اللحظة التي يتجمد فيها الزمن, هم يتهيئون لتلك العملية بكامل زينتهم ورونقهم. النظرات المترقبة, العيون المفتوحة المتوجهة إلى مصدر الضوء, عبر هذه النظرات والملامح الطيبة ثمة الكثير من الحكايات, وكان على الفنان صلاح المر أن يكشف عنها الآن. هذه العلاقة الدافئة بين الصورة الفوتوغرافية القديمة وأعمال صلاح المر يمكن أن تلمحها في طريقة البناء ووضعية الأشخاص والعناصر الأخرى المكملة للمشهد, يمكن أن تراها ماثلة في حميمية العلاقات التي تربط هؤلاء الأشخاص بعضهم ببعض. التفاصيل المكملة للمشهد تصنع نسقاً تزيينياً وزخرفياً. يسيطر ذلك النسق الزخرفي على الخلفية, كما يمتد أيضاً إلى الأرضية, بل يحاول التسلل إلى صدارة المشهد في هيئة متواليات هندسية, أو عبر خطوط مستقيمة تحيط عادة بأطراف المساحة المرسومة, أو ربما يخترق أحياناً ذلك النسق الزخرفي قلب اللوحة ليسهم في تشكيل ذلك الإيقاع القوي والحاسم الذي يتكرر بين الحين والآخر في لوحات صلاح المر, غير أن تلك النزعة التزيينية تجد في المقابل رداً حاسماً من قبل الصياغات السريعة للأفكار المتدفقة من مخيلة صلاح المر, هو يكبح جماحها بقوة ليفرض منطقه الخاص داخل اللوحة.
للفنان صلاح المر منطقه ورؤيته الخاصة داخل العمل الفني, يتشكل هذا المنطق وتلك الرؤية في تحد صريح للنسق المدرسي من حيث النسب والعلاقات وغيرها من عناصر التشكيل الأخرى, فالأطراف على سبيل المثال عادة ما تكون قصيرة كأنها نابتة على استحياء في جانب الجسد, الأكف الصغيرة لا تكاد تصل إلى الجذع, أكف فارغة أو ممسكة في أغلب الأحيان بنبات الصبار أو باقة من أزهار الحراز, في أحيان عدة سوف تجد رفيقاً من الحيوانات يشارك الشخوص داخل المشهد لحظتهم الخاصة, تختلط كل هذه العناصر في ذاكرة صلاح المر وتتوحد مع الحاضر. فالذكريات العالقة في مخيلته تتخذ هنا مساراً مغايراً. في واحدة من اللوحات المنتمية إلى مجموعة ذكريات وهي لوحة مرسومة بالأكريلك على القماش ثمة, ثلاثة أشخاص: الأم وطفليها, نستطيع أن نميز العلاقة فيما بينهم بسهولة, على ذراع الأم اليسرى يستقر جسد عار لطفل, بينما تحمل البنت بيدها اليمنى. خلفيات المشهد تبدو حيادية. في اللوحة ثمة إحساس بالقلق والتوتر من جراء هذا الاختلال في النسب ما بين الشخوص الثلاثة, فحجم الطفل العاري على ذراع الأم يبدو غير منقطي, هو أقرب للصبي منه إلى طفل صغير, مشاعر الحنو والإحتضان تتكرر في لوحات عدة, التركيبة الأسرية في سياقاتها المختلفة تهيمن على الكثير من الأعمال التي أنجزها الفنان خارج السودان, فالعلاقات العائلية لها مكانتها في المجتمعات الشرقية, والترابط الأسري هو أحد أهم السمات التي تميز المجتمع السوداني. يسبغ الفنان صلاح المر على شخوصه ألوان عدة, فالوجوه سمراء, أو صفراء أو برتقالية, اللون هنا يتخذ منحى رمزياً في سياق العمل ويؤكد على الفكرة العامة. ويبدو هذا الميل إلى التحريف في أعمال صلاح المر متعمداً فهو لا يأبه بالمعايير الطبيعية للملامح أو النسب الصحيحة للجسد بقدر اهتمامه بالتعبير عن الفكرة والحالة الشعورية التي تسيطر على العمل. لذا فهو يلجأ إلى إحداث هذا الإختلال والتحريف ويؤكدهما في أعماله. في أحيان عدة يرسم الشخوص وفقاً للمعايير الأكاديمية, لكنه سرعان ما يقوم بهدم هذا البناء المدرسي ليؤسس على أنقاضه أشكالاً جديدة أكثر تحرراً من تلك العلاقات والروابط الطبيعية للجسد والعناصر الأخرى. فالأذرع التي تحمل الطفل لا تلتف على الجسد بل هي تكاد أن تلمسه لمساً, وتبدو الفتاة في نفس اللوحة وكأنها معلقة في ذراع الأم. يتكرر الأمر في معظم لوحات صلاح المر, في إحدى لوحات مجموعة "الإستوديو" ثمة رجل وامرأة واقفان في حالة انتظار, يحمل الرجل بين يديه قطاً بنياً, الثلاثة في حالة الإنتظار نفسها, المرأة ذات البشرة الداكنة والقط والرجل ذو البشرة الصفراء. يدي الرجل لا تكاد تمسكان بالقط الذي يبدو مستكيناً ومطمئناً. يخلق هذا التناقض والعلاقة المرتبكة بين جسدي الرجل والقط نوعاً من التوتر والدهشة, وهما سمة متكررة في أعمال صلاح المر في مقابل حالة السكون التي تسيطر على شخوصه في شكل عام.
تتشكل معظم العناصر والمفردات في معظم أعمال الفنان صلاح المر داخل استوديو افتراضي, فبنية الأماكن المحيطة بالأشخاص والعناصر هي بنية منغلقة أشبه بالاستوديو أو حجرة التصوير, ونادراً ما تتسع هذه المساحة أو تنفتح على الخارج, ويستعيض الفنان بدلاً من ذلك بخطوط طولية وعرضية كي تخلق إيهاماً بالعمق والإتساع. في لوحة المفتش الزراعي على سبيل المثال والتي لا تنتمي -بحكم موضوعها - إلى لوحات الإستديو, إلا أن وضعية الأشخاص في اللوحة تتخذ وضعاً فوتوغرافياً بامتياز. وكأنما يكمل هنا صلاح المر عمل والده, فبينما كان والده يسجل اللحظات من طريق الفوتوغرافيا داخل الاستوديو الخاص به, راح صلاح المر يسجل الذكريات والصور العالقة في ذهنه منذ الطفولة عبر عالمه المغلق كحجرة التصوير. الصور التي يرسمها صلاح المر لا تنتهي, الذكريات تتدفق من مخيلته على سطح العمل بلا توقف. الصور العالقة في ذهنه منذ الطفولة تجد لنفسها مكان على سطح القماش في سهولة ويسر ولكن بعد مرورها على ماكينة خياله المتوقد. فالصور العالقة في ذهنه يصوغها صلاح المر وفقاً لما يترأى لمخيلته, هو يدمج كل هذه المشاعر والذكريات معاً ويخلط فيما بينها وبين الصور الفوتوغرافية التي تشبعت بها قريحته وهو صغير, وقد يشتبك كل ذلك أيضاً بمشاهداته الآنية ومشاعره الداخلية, وربما مخاوفه وإحباطاته وشعوره الجارف والمسيطر بالحنين.
ذكريات
لقد أوجدت حالة الإغتراب التي يعيشها الفنان صلاح المر بين الحين والآخر نوعاً من الشعور بالحنين إلى الوطن, يظهر ذلك الحنين في أعماله على نحو أشبه بـ "النوستالوجيا" إذ يرتبط الحنين إلى الوطن في مخيلته دائماً بالحنين إلى الماضي, ولعل ولعه بالأشياء القديمة هو أحد تجليات ذلك الحنين. ربما لهذا الأمر يشعر صلاح المر بإختلاف كبير بين أعماله التي يرسمها في السودان عن أعماله التي يقوم برسمها خارج السودان, فدائماً ما يكون هناك اختلاف ما, غير أن العامل المشترك بين أعماله جميعها هو احتفاؤها بالذكريات, فالذكريات تمثل خطاً ثابتاً يحيط بمعظم أعماله على نحو ما, وتحتل ذكريات القرية عدد كبير من أعمال الفنان صلاح المر, ومن بين هذه المشاهد التي لا ينساها - على سبيل المثال, ذكرياته عن النهر والتي تؤلف مجموعة من اللوحات أطلق عليها اسم "شاطىء الأزرق" . فقد عاش صلاح المر في طفولته بالقرب من النهر, يراه دائماً أمامه مصدراً للخير والبهجة, يمارس الناس من حوله طقوسهم اليومية التي يرتبط جزء كبير منها بذلك النهر بحكم اقترابهم منه, يسبحون في مياهه أو يعملون في مهنة الصيد, ويأكلون من خيره. يحتل النهر بمرادفاته هذه مجموعة اللوحات التي تضمها مجموعته عن النهر (شاطىء الأزرق), يحتفي صلاح المر في هذه اللوحات بالأسماك احتفاءاً مميزاً, تبدو الأسماك في اللوحات كالحيوانات الأليفة, يحتضنها أفراد العائلة ويحيطونها بالحنان والدفء.
تتسلل ذكريات القرية بين المشاهد المتعددة في أعمال صلاح المر, وهي جزء رئيسي ضمن مجموعة العناصر التي يرسمها. في لوحته "فتاة عارية على شاطىء النيل الأزرق"(أكريلك على قماش ) وهي إحدى لوحاته عن النهر, ثمة مجموعة من الرجال يستحمون في النهر, لا تتبين من هؤلاء الرجال سوى رءوسهم المرفوعة على سطح المياة. يحملق الرجال جميعاً في اتجاه واحد. المرأة هنا ليس لها حضور فعليّ, ليس هناك سوى تأثير وقعها أو مرورها من أمام هؤلاء الرجال المستحمون في النهر. هي ليست حاضرة بين الأشخاص المتواجدين في اللوحة, فحضورها هو حضور افتراضي, لكنه حضور طاغ رغم هذا الغياب. يخلق الفنان هنا نسقاً بصرياً مختلفاً في استخدامه لمستويات هؤلاء المستحمون فوق صفحة المياة, هم يبدون كثمار باثقة أو كتماثيل قديمة دفنتها الرمال, أما حركة النهر فتجسدها تلك التتابعات من الكتل اللونية الزرقاء المتجاورة, ويؤكدها كذلك هذا القارب الصغير الذي يمر بهدوء في خلفية المشهد ولا يأبه صاحبه بما يتطلع إليه هؤلاء الرجال المستحمون في النهر.
دعوة على السمك
دعوة على السمك, هي إحدى لوحات مجموعة "شاطىء الأزرق" وهي لوحة كبيرة مرسومة بخامة الأكريلك على القماش. في اللوحة يؤكد الفنان على تلك العلاقة الأسرية بين الشخوص الأربعة: الرجل والمرأة والإبن والإبنة. وكعادته يضّمن صلاح المر لوحاته بمزيج من الدهشة والحيرة, فإلى جانب انفلات قريحته من أسر التعاليم الأكاديمية في صياغة المشهد البصري, يدهشنا كذلك بتلك العلاقات الحميمة بين العناصر المختلفة في لوحاته, فالعلاقة بين البشر وغيرهم من العناصر المحيطة بهم هي علاقة خاصة, تحمل ارتباطاً حميمياً, فالأسماك هنا أشبه بالحيوانات الأليفة, يحرص الناس على وجودها كفرد من أفراد الأسرة, ينسحب الأمر أيضاً على النباتات التي تتكرر في الكثير من الأعمال, ويبدو نبات الصبار وزهرة الحراز كتميمته الخاصة التي تتكرر في كثير من اللوحات على نحو ملفت. الشخوص في لوحة "دعوة على السمك" لم يصبهم القدر الكافي من التحريف والمبالغة في التفاصيل كغيرهم من الشخوص الأخرى في أعماله. وبينما يخيم الهدوء والسكينة الأسرية على المشهد يجرح صلاح المر هذا السكون المسيطر بتلك العلاقة الحميمة بين المرأة والسمكة التي تحملها بين يديها في ود وانتظار, إذ يحيل المتأمل إلى حالة من التساؤل حول طبيعة هذه العلاقة وغرابتها. في أعماله عن النهر تمثل الأسماك عنصراً رئيسياً, غير أن الفنان لا يتعامل مع تلك الأسماك النهرية كوجبة شهية, هي حاضرة في المشهد كأي فرد من أفراد الأسرة, يحملها الأطفال كلعبة أو كحيوان مدلل, وتحتضنها الأم كما تحتضن صغارها. في تلك اللوحة يترك صلاح المر المتأمل في حيرة. فالدعوة التي يشير إليها اسم اللوحة تتناقض مع تلك الحميمية المسيطرة بين أفراد الأسرة وتلك السمكة الوحيدة المدللة.
هكذا تأخذنا أعمال الفنان صلاح المر نحو واقع مغاير, واقع تتبدل فيه العلاقات ويخيم عليه احساس طاغ بالحنين. هو لا يلق بالاً في أعماله بمنطقية هذه العلاقات التي تربط بين عناصره, بقدر ما يحاول التعبير عن تلك الصور الذهنية المختلطة في مخيلته بانطباعاته ومشاعره عن الواقع والذكريات والأشياء من حوله. فلكل لوحة حكاية وسياق يربطها بحدث ما أو ذكرى بعينها وإن لم يرغب هو في الإفصاح عن ذلك السياق أو الرابط. ثمة وشائج قوية تربط أعمال الفنان صلاح المر بكل هذه الذكريات القديمة لكنها لا تبتعد أيضاً بأي حال من الأحوال عن اللحظة الآنية التي يعيشها, فالصور المخزونة في الذاكرة تشتبك على نحو ما مع مشاهداته وانطباعاته ورؤيته للناس وللعالم من حوله. إن التجربة الإبداعية للفنان صلاح المر التي يستقي إطارها العام ويستلهم مفرداتها من طبيعة العلاقات الإجتماعية والموروث السوداني تحمل بين تفاصيلها روحاً إنسانية عامة تمتد خارج الإطار الجغرافي لوطنه وثقافته لتلامس عادات وثقافات إنسانية متعددة, وهي تحمل من الإختلاف والحميمية والدهشة ما يضعها بين أهم إبداعات الفنانين السودانيين والأفارقة, هي أشبه بحكاية ممتدة يرويها صاحبها من طريق الصورة, حكاية شائقة ممزوجة بالحلم والخيال والذكريات القديمة.
ياسر سلطان
القاهرة – 16 مارس 2015